آخر المواضيع

السبت، 19 نوفمبر 2016

تاريخ الجدول الدورى الحديث


كان البحث عن طريقة لترتيب العناصر بصورة تعكس التشابه في خصائصها مدار بحث الكيميائين بشكل دائم، ففي الجدول الدوري الحديث تترتب العناصر تصاعدياً بالاعتماد على عددها الذري (العدد الذري: هو عدد البروتونات في نواة الذرة)، ولكن الجداول القديمة كانت تعتمد الأوزان الذرية النسبية في ترتيب العناصر، وذلك لأنّ فكرة تكون الذرات من جزيئات صغيرة هي البروتونات والنيوترونات والإلكترونات لم تكن قد نشأت بعد، ومع ذلك فإنّ المبدأ الأساسي في الجدول الدوري الحديث كان راسخاً وقد استخدم في توقع خصائص العناصر غير المكتشفة قبل تطور مفهوم العدد الذري بزمن طويل.

سنحاول في هذا المقال الإبحار في تاريخ الكيمياء للتعرف على بداية الجدول الدوري والكيفية التي تطور بها على يد كبار العلماء وعلى مدى القرنين الماضيين.

نشوء الجدول الدوري


لو طرحنا السؤال التالي: من الذي وضع الجدول الدوري؟ فبالتأكيد ستكون إجابة أغلب الكيميائيين: ديميتري مندلييف. بكل تأكيد فإنّ مندلييف هو أول من نشر نسخة الجدول الدوري المعروفة لدينا اليوم، ولكن هل يستحق مندلييف كل هذه الشهرة؟

لقد درس العديد من الكيميائيين قبل مندلييف أنماط الخصائص للعناصر المعروفة في عصرهم، وكانت أولى المحاولات لتصنيف العناصر سنة 1789 حين صنف أنتوان لافوازييه العناصر بالاعتماد على خصائصها إلى: الغازات، اللافلزات، الفلزات، والترابيات.

وفي العقود التالية ظهرت العديد من المحاولات لتجميع العناصر مع بعضها، ففي سنة 1829 تمكن جوهان دوبرينير من التعرف على ثلاثيات من العناصر تمتلك خواص كيميائية متشابهة، مثل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم، وبين كذلك أن خواص العنصر الأوسط يمكن توقعها من خواص العنصرين الآخرين.

سنة 1860 وفي مؤتمر في مدينة كارلسروه الألمانية ظهرت أول قائمة دقيقة للأوزان الذرية للعناصر، وكانت هذه خطوة حقيقية باتجاه إيجاد الجدول الدوري الحديث.

ألكسندر إميل بيغواير دي-كانكورتوي Alexandre-Emile Béguyer de Chancourtois



هل يحق لفرنسا أن تطالب بالجدول الدوري الأول؟ على الأرجح كلا، ولكن البروفيسور الفرنسي في علم الأرض حقق تقدماً واضحاً باتجاه ذلك، مع أن قلة من الناس قد تنبهوا لذلك.

كان ألكسندر إميل بيغواير دي ـ كانكورتوي عالماً جيولوجياً، ولكن العلماء في ذلك الوقت كانوا أقل تخصصاً مما هم عليه الآن. كانت مساهمته الأساسية في الكيمياء هي (اللولب التلوري) وهو ترتيب ثلاثي الأبعاد للعناصر التي تشكل البنية الأولى للتصنيف الدوري، وقد نشر هذا العمل سنة 1862.

تظهر الأوزان الذرية للعناصر في اللولب التلوري خارج الأسطوانة، حيث تعادل دورة واحدة زيادة بمقدار 16 في الوزن الذري. وهذا الترتيب ـ كما يظهر في الشكل ـ يعني أنّ بعض العناصر ذات الخواص المتشابهة تظهر في خط عمودي، ومع أنّ اللولب التلوري لم يظهر بشكل صحيح جميع العلاقات بين العناصر المعروفة في ذلك الوقت، إلا أن دي-كانكورتوي يعد أول من استخدم الترتيب الدوري لجميع العناصر المعروفة ليبين بذلك أن العناصر المتشابهة تظهر في أوزان ذرية دورية.



جون نيولاندز John Newlands


عالم بريطاني الجنسية لاحظ ـ قبل أن ينشر مندلييف جدوله الدوري بأربع سنوات ـ أن هناك تشابهاً بين العناصر التي تختلف في وزنها الذري عن بعضها البعض بمقدار 7، وقد سمى هذه الظاهرة بقانون الثمانيات (Octaves)، في مقارنة بينها وبين الثمانيات الموسيقية.

لم تكتشف الغازات النبيلة (الهيليوم، النيون، الآرغون.. الخ) إلا بعد مدة من الزمن، والتي فسرت سبب وجود دورية سباعية وليست ثمانية في جدول نيولاندز.

لم يترك نيولاندز أي شواغر في جدوله لأي عناصر غير مكتشفة، وقد اضطر في بعض الأحيان إلى حشر عنصرين في موقع واحد للحفاظ على النمط المتبع، لذلك، رفضت الجمعية الكيميائية نشر ورقته البحثية، حيث علق البروفيسور فوستر على عمله بأنه ربما رتب العناصر أبجدياً وبشكل جيد.

وعندما نشر مندلييف جدوله الدوري، طالب نيولاندز بحق اكتشاف الجدول قبل مندلييف، إلا أنّ الجمعية الكيميائية لم تدعمه في ذلك، ولكنها وفي سنة 1884 وجهت دعوة لنيولاندز لتقديم محاضرة حول القانون الدوري كتعويض شرف.

في سنة 1998 ارتأت الجمعية الملكية للكيمياء أخيراً ان تضع لوحة تذكارية زرقاء على حائط مسقط رأسه، تثميناً لاكتشافه للجدول الدوري.

يوليوس لوثار ماير Julius Lothar Meyer



تدرب ماير في جامعة هايدلبرغ على يد بنزن وكيرشوف، كما هو الحال مع مندلييف، وهذا يعني أنّ العالمين يعرفان بعضهما بكل تأكيد، مع أنهما لم يكونا على علم بما قام به الآخر من أبحاث.

تعود جذور ماير إلى ألمانيا، وهو يكبر مندلييف بأربع سنوات فقط، وقد أوجد العديد من الجداول الدورية بين 1864 و 1870.

احتوى جدوله الأول على 28 عنصراً فقط، مرتبة حسب تكافؤها (أي عدد الذرات الأخرى التي يمكن أن يرتبط بها العنصر)، وكل هذه العناصر كانت من مجموعة العناصر الرئيسية تقريباً، ولكن في 1868 أضاف ماير الفلزات الانتقالية، مكوناً جدولاً أكثر تطوراً بكثير، وقد رتب العناصر في هذا الجدول حسب أوزانها الذرية، مع ترتيب التكافؤ المتشابه في خطوط عمودية، بشكل مشابه لجدول مندلييف، ولسوء الحظ لم ينشر عمل ماير هذا حتى سنة 1870، أي بعد عام من نشر مندلييف لجدوله الدوري. وحتى بعد سنة 1870، فإن ماير ومندلييف لم يكونا على علم بأبحاث بعضهما البعض، إلا أنّ ماير اعترف لاحقاً بأن مندلييف قد نشر نسخته من الجدول الدوري أولاً.

ساهم ماير في تطور الجدول الدوري بطريقة أخرى، حيث كان أول من تعرف على النزعات الدورية في خواص العناصر، ويظهر المخطط النمط الذي رآه ماير في الرسم البياني بين الحجم الذري والوزن الذري للعنصر.

ديمتري مندلييف Dmitri Mendeleev



لم يكن مندلييف، كما رأينا في الجزء الأول من هذا المقال، أول من حاول إيجاد العلاقة بين العناصر، ولكن النجاح الكبير لمحاولته هو الذي جعل عمله أساساً للجدول الدوري الحديث.

اكتشف مندلييف الجدول الدوري (أو النظام الدوري كما أسماه هو) عندما كان يحاول ترتيب العناصر، وذلك في شباط من عام 1869، وقد قام بذلك عن طريق كتابة خواص العناصر على بطاقات وترتيبها مراراً وتكراراً إلى أن توصل إلى حقيقة مفادها أنه إذا رتبت العناصر بحسب زيادة الوزن الذري، فإن أنواعاً معينة من العناصر تتكرر بانتظام. فعلى سبيل المثال، يكون اللافلز الفعّال متبوعاً مباشرة بفلز خفيف فعال جداً، يليه فلز خفيف أقل فعالية.

احتوى الجدول الدوري بادئ الأمر على عناصر متشابهة في صفوف أفقية، ولكن مندلييف بدل هذا الترتيب ليصبح عمودياً كما نراه في يومنا هذا.

لم يقتصر عمل مندلييف على ترتيب العناصر بالطريقة الصحيحة فحسب، بل إنه نقل العنصر الذي يظهر في المكان الخاطئ نظراً لوزنه الذري إلى مكانه الصحيح في الجدول بحيث يطابق النمط المتبع. فمثلاً، يجب أن يكون اليود والتيليروم في الجهة المقابلة تماماً بالاستناد على الوزن الذري، ولكن مندلييف رأى أنّ اليود مشابه جداً في خصائصه لبقية الهالوجينات (الفلور، والكلور والبروم) وأنّ التيليريوم مشابه لعناصر الزمرة السادسة (الأكسجين والكبريت والسيلينيوم)، لذا بدل مندلييف مكان العنصرين في الجدول.

أما عبقرية مندلييف الحقيقية فقد ظهرت في تركه شواغر للعناصر غير المكتشفة في حينها، حتى أنه توقع خواص ومركبات خمسة من تلك العناصر. وعلى مدة الأعوام الخمس عشرة اللاحقة فقد اكتشفت ثلاثة من هذه العناصر وكانت توقعات مندلييف صائبة بشكل لا يصدق.

يظهر الجدول التالي مثالاً عن ذلك، وهو عنصر الكاليوم والذي أسماه مندلييف (eka-aluminium) أي ما يلي الألمنيوم، لأنه العنصر الذي يأتي بعد الألمنيوم.

وفي سنة 1886 اكتشف كل من السكانديوم والجرمانيوم، وقد ساهم هذا الاكتشاف في ترسيخ سمعة الجدول الدوري لمندلييف.

الانتصار الأخير لعمل مندلييف كان غير متوقع نوعاً ما. لقد كان اكتشاف الغازات النبيلة في 1890 على يد ويليام رامزي، مناقضاً في البداية لعمل مندلييف، إلا أنه أدرك لاحقاً أنّ هذه الغازات كانت إثباتاً آخر على صحة نظام مندلييف، لتكون مع بعضها الزمرة الأخيرة في جدوله الدوري، وهذا أعطى الجدول الدورية الثمانية التي نعرفها الآن، بدلاً من الدورية السباعية التي كانت معروفة سابقاً.

لم يحصل مندلييف على جائزة نوبل لقاء عمله هذه، ولكن العنصر 101 سمي باسمه (Mendelevium).

هنري موسيلي Henry Moseley


أخيراً وفي عام 1913 أي بعد وفاة مندلييف بست سنوات، تم حل الأحجية الأخيرة. كان ترتيب الجدول الدوري يستند إلى الوزن الذري، وكانت النتيجة مطابقة لترتيب العناصر حسب العدد الذري بصورة تقريبية، ولكن الأمر لم يخل من الاستثناءات، (مثل اليود والتيليروم كما رأينا في أعلاه)، وقد ارتأى مندلييف أن يبدل أماكن هذين العنصرين في الجدول بغض النظر عن وزنيهما الذريين، وبقي السبب مجهولاً إلى أن اهتدى إليه موسيلي أخيراً.

قصف موسيلي بواسطة قاذف الأشعة السينية المطور حديثاً آنذاك عينات من العناصر، ثم قاس الطول الموجي للأشعة السينية الناتجة واستخدمه في حساب التردد، وقد وجد أنه إذا رسمت العلاقة بين الجذر التربيعي لهذا التردد والعدد الذري، فإنّ العلاقة ستكون علاقة خط مستقيم، وفي الواقع فقد وجد طريقة لقياس العدد الذري، ويعتقد الكثيرون أنّ موسيلي كان مرشحاً بقوة لنيل جائزة نوبل، إلا أنّ اشتراكه في الحرب العالمية الأولى ومقتله على يد قناص في تركيا، حال دون ذلك.

في السنوات العشر اللاحقة لعمل موسيلي، تم التعرف على بنية الذرة بواسطة العديد من العلماء البارزين في ذلك الوقت، وقد فسر هذا التطابق الجيد لأشعة موسيلي السينية مع العدد الذري، وكما يلي:

عند رجوع الإلكترون من مستوى طاقي عالٍ إلى مستوى طاقي أوطأ، تتحرر الطاقة على هيئة أمواج كهرومغناطيسية (في هذه الحالة على هيئة أشعة سينية)، وتعتمد كمية الطاقة المتحررة على قوة انجذاب الإلكترونات نحو النواة، فكلما احتوت النواة على عدد أكبر من البروتونات، زادت قوة انجذاب الإلكترونات نحوها، وزادت الطاقة المتحررة نتيجة لذلك، ومن المعلوم أن العدد الذري يعرف أيضاً بعدد البروتونات، وهو الذي يحدد طاقة الأشعة السينية.

غلين سيبورغ Glenn Seaborg


اقترح العالم الأمريكي غلين سيبورغ سنة 1945 أنّ الأكتينيدات واللانثانات تملأ غلاف f تدريجياً، على عكس الاعتقاد السائد بأنّ الأكتنيدات تشكل دورة رابعة في سلسلة عناصر القطاع d. وعلى الرغم من معارضة زملائه لنشر هذا الاعتقاد، فإنّ غلين قام بنشر هذه الفكرة، وتبينت صحتها فيما بعد، لينال غلين سنة 1951 جائزة نوبل في الكيمياء لجهوده في تصنيع عناصر الأكتينيدات، وبذلك فقد أخذ الجدول الدوري شكله الحالي، حيث تترتب العناصر فيه حسب العدد الذري، وتكون اللانثانات والأكتينيدات في دورتين خاصتين بهما في معزل عن العناصر الانتقالية الأخرى.

أشكال أخرى للجدول الدوري


بقي أن نشير إلى وجود أشكال أخرى للجدول الدوري، فخلال القرن الذي تلا وضع مندلييف لجدوله الدوري نُشر ما يقارب الـ 700 نسخة مختلفة من الجدول الدوري وبأشكال تختلف عن الشكل المعروف، ومن هذه الأشكال الدائري والمكعب والأسطواني واللولبي والهرمي والمثلثي، والعديد من الأشكال الأخرى، وقد نشأت هذه الأشكال للتركيز على بعض الخصائص الفيزيائية والكيميائية للعناصر والتي لا تبدو واضحة في الشكل التقليدي للجدول الدوري.

من أشهر هذه الأشكال هو الذي وضعه تيودور بينفي سنة 1960، حيث تترتب العناصر فيه بشكل حلزوني مستمر، ويكون الهيدروجين في المركز، أما العناصر الانتقالية واللانثانات والأكتينيدات فإنها تشغل شكلاً مشابهاً لشبه الجزيرة.



يمكن الاطلاع على قائمة طويلة من الاشكال الأخرى للجدول الدوري من خلال هذا الرابط:

http://www.meta-synthesis.com/webbook/35_pt/pt_database.php?Button=3D+Formulations

ختاماً، فإنّ الجدول الدوري الذي نراه بين أيدينا اليوم هو حصيلة جهود جبارة للعديد من العقول العظيمة، على مدى القرنين المنصرمين من الاكتشافات العلمية.

المصدر:

Development of the periodic table. (n.d.). Royal Society of Chemistry. Retrieved March 5, 2015, from http://www.rsc.org/periodic-table/history/about

Masterton, William L.; Hurley, Cecile N.; Neth, Edward J. Chemistry: Principles and reactions (7th ed.). Belmont, CA: Brooks/Cole Cengage Learning. p. 173. ISBN: 1-111-42710-0.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من نحن

authorمرحبا، أسمي مستر فوزى وهذه مدونتي أسعى دائما لأقدم لكم أفضل المواضيع الخاصة بالتعليم والمعرفة فى كافة المجالات
المزيد عني →

التصنيفات

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *